فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبِروا إن الله مع الصابرين}
أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها والأظهر أن يكون {فتفشلوا} جوابًا للنهي فهو منصوب ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون {فتفشلوا} مجزومًا عطفًا على {ولا تنازعوا} وذلك في قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء، وقرأ أبو حيوة وإبان وعصمة عن عاصم ويذهب بالياء ونصب الباء، وقرأ الحسن وابراهيم {فتفشِلوا} بكسر الشين، قال أبو حاتم: وهذا غير معروف، وقال غيره: هي لغة.
قال مجاهد: الريح والنصرة والقوة وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ناغوه بأحد، وقال الزمخشري: والريح الدّولة شبهت لنفوذ أمرها وتشبيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره.
ومنه قوله:
أتنظران قليلًا ريث غفلتهم ** أم تعدوان فإنّ الريح للعادي

. انتهى. وهو قول أبي عبيدة إن الريح هي الدولة ومن استعارة الريح قول الآخر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ** فإن لكلّ عاصفة سكونا

ورواه أبو عبيدة ركودًا.
وقال شاعر الأنصار:
قد عودتهم صباهم أن يكون لهم ** ريح القتال وأسلاب الذين لقوا

وقال زيد بن علي ويذهب ريحكم معناه الرّعب من قلوب عدوكم ومنه قيل للخائف انتفخ سحره.
قال ابن عطية: وهذا حسن بشرط أن يعلم العدوّ بالتنازع فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون انتهى، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا»، وقال الحكم {وتذهب ريحكم} يعني الصّبا إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وقال مقاتل {ريحكم} حدتكم، وقال عطاء جلدكم، وحكى التبريزي هيبتكم، ومنه قول الشاعر:
كما حميناك يوم النّعف من شطط ** والفضل للقوم من ريح ومن عدد

. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أُمروا به هاهنا اندراجًا أوليًا {وَلاَ تنازعوا} باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر أو أحُد {فَتَفْشَلُواْ} جوابٌ للنهي وقيل: عطفٌ عليه {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب عطفٌ على جواب النهي وقرئ بالجزم على تقدير عطفِ فتفشلوا على النهي أي تذهبَ دولتُكم وشَوْكتُكم فإنها مستعارةٌ للدولة من حيث إنها في تمشّي أمرِها ونفاذِه مشبهةٌ بها في هُبوبها وجَرَيانها. وقيل: المرادُ بها الحقيقةُ فإن النُصرةَ لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث: «نُصِرتُ بالصَّبا وأُهكلتْ عادٌ بالدَّبور» {واصبروا} على شدائد الحرب {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالنُصرة والكَلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متّبعون من تلك الحيثية، ومعيَّتُه تعالى إنما هي من حيث الإمدادُ والإعانة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا {وَلاَ تنازعوا} باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد.
وقرئ {وَلاَ تنازعوا} بتشديد التاء {فَتَفْشَلُواْ} أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم، والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزومًا عطفًا عليه، وقوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب معطوف على {تفشلوا} على الاحتمال الأول.
وقرأ عيسى بن عمر {بِهِ وَيُذْهِبَ} بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضًا على الاحتمال الثاني، والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه.
ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ** فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها ** فما تدري السكون متى يكون

وعن قتادة وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو.
وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح، وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد {واصبروا} على شدائد الحرب {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناءً على المشهور من حيث أنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ}
ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم، وهي علائق بعضهم مع بعض، وهي الطاعة وترك التنازع، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين، مثل الغنائم.
وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من آراء الحرب، كقوله للرُّماة يوم أحد: «لا تبرحوا من مكانكم ولو تَخَطَّفَنَا الطيرُ» وتشمل طاعةُ الرسول عليه الصلاة والسلام طاعةَ أمرائه في حياته، لقوله: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني» وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغَيبة عن شخصه.
وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضًا، حتّى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم} [النساء: 83].
وقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].
والنهي عن التنازع أعّم من الأمر بالطاعة لوُلاَة الأمور: لأنّهم إذا نهوا عن التنازع بينهم، فالتنازع مع ولي الأمر أَوْلَى بالنهي.
ولمّا كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسَطَ القرآن القولَ فيه ببيان سيِّء آثاره، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله: {فتفشلوا وتذهب ريحكم} فحذّرهم أمرين معلومًا سوءُ مَغبتهما: وهما الفشلَ وذهاب الريح.
والفشل: انحطاط القوة وقد تقدّم آنفًا عند قوله: {ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم} [الأنفال: 43] وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدوّ، ويصحّ أن يكون تمثيلًا لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه، في انعدام إقدامه على العمل.
وإنّما كان التنازع مفضيًا إلى الفشل؛ لأنّه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربّص بعضهم ببعض الدوائرَ، فيَحدث في نفوسهم الإشتغال باتّقاء بعضهم بعضًا، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال، فيصرف الأمّة عن التوجّه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكّن منهم العدوّ، كما قال في سورة [آل عمران: 152] {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم}
والريح حقيقتها تحرّك الهواء وتموّجه، واستعيرت هنا للغلبة، وأحسب أنّ وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أنّ الريح لا يمانع جَريها ولا عملَها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية، لعَبيد بن الأبرص:
كما حميناك يوم النعب من شطب ** والفضل للقوم من ريح ومن عدد

وفي الكشّاف قال سليك بن السلكة:
يا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حيَّ بالوادي ** إلاّ عبيدٌ قعودٌ بين أذواد

هل تنظران قليلًا ريثَ غفلتهم ** أو تعدوان فإنّ الريح للعادي

وقال الحريري، في ديباجة المقامات: قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدَت في هذا العصر ريحه.
والمعنى: وتَزولَ قوتكم ونفوذُ أمركم، وذلك لأنّ التنازع يفضي إلى التفرّق، وهو يوهن أمر الأمّة، كما تقدّم في معنى الفشل.
ثم أمرهم الله بشيء يعمّ نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه، ويسهل عليهم الأمور الأربعة، التي أمروا بها آنفًا في قوله: {فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا} وفي قوله: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا} الآية.
ألاَ وهو الصبر، فقال: {واصبروا} لأنّ الصبر هو تحمّل المكروه، وما هو شديد على النفس، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره، فالصبر يجمع تحمّل الشدائد والمصاعب، ولذلك كان قوله: {واصبروا} بمنزلة التذييل.
وقوله: {إن الله مع الصابرين} إيماء إلى منفعة للصبرِ إلهيةٍ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالًا لأمره، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها.
وجملة {إن الله مع الصابرين} قائمة مقام التعليل للأمر، لأنّ حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع، كما تقدّم في مواضع. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
وعرفنا من قبل أن طاعة الله تعالى تتمثل في تنفيذ ما أمر به في المنهج، وطاعة الرسول هي طاعة تطبيقية في السلوك، وهي طاعة لله أيضًا؛ لأن الرسول مبلغ عن ربه، ولابد للطائع أن يتعبد عن التنازع مع إخوته المؤمنين؛ لأن التنازع هو تعاند القوي، أي توجد قوة تعاند قوة أخرى، والقوى المتعاندة تهدر طاقة بعضها البعض، فالتعاند بين قوتين يهدر طاقة كل منهما فتصبح كل قوة ضعيفة وغير مؤثرة. فكونوا يدًا واحدة؛ لأنكم إن تنازعتم فستضيع قوتكم وتقابلون الفشل، أي لن تحققوا شيئًا مما تريدون لأنكم أهدرتم قوتكم في التنازع، ولم تعد لكم قوة تحققون بها ما تريدون وستذهب ريحكم في هذه الحالة. والفشل هو إخفاق الإنسان دون المهمة التي كان يرجوها من نفسه.
وانظروا إلى عبارة الحق تبارك وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
نحن نعرف أن الريح يُطلق على الهواء الذي حيزه الفضاء على سطح الأرض، إذن فمكان الهواء هو أي مكان خال على سطح الأرض، ولذلك نجد العمود المكون من الأسمنت والحديد مثلًا، لا يوجد فيه هواء لأنه لا يوجد فيه فراغ، أما الفواصل التي بين الأعمدة فيوجد فيها هواء لأن فيها فراغًا. ونعلم أن مقومات الحياة طعام وشراب وهواء، ولكن الهواء هو المقوم الأول للحياة؛ لأنك لا تستطيع أن تصبر على الهواء مقدار شهيق وزفير.
إذن فالهواء هو المقوم الأول لحياتك وحياة كل من في هذا الكون، وما دام الهواء محيطًا بالشيء بحيث يتساوى الضغط من جميع نواحيه يكون الشيء ثابتًا، فإذا فرّغت الهواء من ناحية قام ضغط الهواء بتحطيم هذا الشيء. وفي التجارب المدرسية شاهدنا تأثير ضغط الهواء، وكانوا يأتوننا بصفيحة وضع فيها ماء ويتركونها تغلي على النار، فيطرد بخار الماء الهواء الموجود في الجزء الفارغ من الصفيحة ليملأ البخار هذا الفراغ، ثم يغلقون الصفيحة بإحكام ويسكبون عليها من الخارج ماءً باردًا؛ فيتكثف البخار، ويقل حجمه، ويصبح جزء من الصفيحة خاليًا من الهواء، فتنهار جدران الصفيحة إلى الداخل بسبب ضغط الهواء خارج الجدران، وتفريغ الهواء داخل الصفيحة. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يعذب قومًا أو ينزل بهم عقابًا، فهو يرسل عليهم ريحًا. ويقول جل وعلا: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 6-7].